لطالما كانت العملة الوطنية لاغلب الدول والشعوب والاتحادات الدولية هي من المؤشرات الاساسية والتي من خلالها تعرف متانة السياسات النقدية والمالية وبالتالي القطاع الاقتصادي بالاجمال، وتاريخ الليرة اللبنانية هي خير دليل على ما ذكر انفا، فبالامكان تحديد الوضع الاقتصادي اللبناني العام من خلال مراقبة القيمة الفعلية لليرة البنانية عبر التاريخ.
ففي الفترات الممتدة قبل الاستقلال اللبناني عام ١٩٤٣ و التي شهدت سيطرة الدولة العثمانية كانت العملة المتداولة في لبنان هي الليرة العثمانية وكانت تسمى العثملي، ثم وبعد انهيار السلطنة العثمانية اعتمد الجنيه المصري في فترة ما ومنه انشقت كلمة “مصاري” باللغة اللبنانية العامية، واعتمد لاحقا خلال فترة الانتداب الفرنك الفرنسي كعملة تداول الى ان انشأت فرنسا بنك سورية ولبنان وعملت على اصدار الليرة من خلاله والتي كانت تساوي عشرون فرنكا فرنسيا انذاك، او في بعض الفترات بقيمة ما يقارب ثمانية جنيهات بريطانية، وبعده حصل لبنان على استقلاله السياسي عام ١٩٤٣ والمالي والنقدي عام ١٩٦٣ مع تأسيس مصرف لبنان وانشاء قانون النقد والتسليف والذي باشر اعماله عام ١٩٦٤.
ومنذ ذلك التاريخ دخل لبنان بعصر قوته النقدية، حيث اعتبرت الليرة خلال عقد الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي بانها من اقوى عشرة عملات في العالم، مع سعر صرف بقي دون الاربعة ليرات للدولار الواحد، الا ان الحرب الاهلية اللبنانية كان لها تأثيراتها الكارثية على لبنان وخاصة مع اجتياح العدو الاسرائيلي في الثمانينات، حيث انهارت الليرة امام الدولار ووصلت في العام ١٩٨٧ الى ما يقارب الخمسماية ليرة للدولار الواحد، وحتى مع انتهاء الحرب في بداية التسعينات بقيت وتيرة الانهيار متسارعة، ووصلت الى قمة الخسائر في مع بلوغ سعر صرف الدولار ما يقل عن ثلاثة الاف ليرة بقليل عام ١٩٩٢، وكان ذلك نتيجة التأثيرات الاقتصادية التي خلفتها الحرب الاهلية وملف اعادة الاعمار وغلاء المعيشة والضرائب المترتبة انذاك.
وفي العام ١٩٩٩ تم ربط العملة الوطنية اللبنانية بالدولار الاميريكي وثبت على سعر صرف وسطي بقيمة الف و خمسماية و سبعة ليرات للدولار الواحد، وذلك لاستدراج المستثمرون واستعادة الثقة لزيادة المشاريع الاقتصادية والاعمارية، حيث تكمن الثقة في ثبوت سعر الصرف، وهذا ما انهك المصرف المركزي اللبناني محاولا دائما دخول الاسواق المالية شاريا او بائعا للمحافظة على هذا السعر وبالتالي المحافظة على استقطاب المستثمرين حتى مع الازمات الاقتصادية التي عصفت في معظم دول العالم كازمة عام ٢٠٠٧- ٢٠٠٨.
ولكن هذا الوضع تغيير كليا نهاية عام ٢٠١٨ حيث بدأت ملامح الازمة الاقتصادية بالظهور ومع فشل الادارة اللبنانية في منح الثقة للمساعدات الخارجية لاسيما مؤتمر سيدر منتصف عام ٢٠١٩ وزد على ذلك الخلافات السياسية الحادة في البلاد والوضع الامني الخطير في المحيط، فبدأ تخبط الليرة في نهاية العام وانفجرت ثورة ١٧ تشرين ٢٠١٩ مع تردي الاوضاع الاقتصادية، الى ان تخلف لبنان عن سداد ديونه في تاريخ استحقاقها عام ٢٠٢٠ فانهارت الليرة بسرعة، فوصل الدولار الى ما يزيد عن عشرة الاف ليرة ثم تخطى ذلك الرقم في العام ٢٠٢١ الى ما يفوق العشرين الفا وضرب الرقم القياسي في العام الحالي اذا بلغ في بعض الاحيان سبعة والثلاثين الف ليرة للدولار.
ومن هنا نرى رحلة الليرة اللبنانية ومدى تأثيرها وتأثرها بالوضع اللبناني العام فعصر الليرة الذهبي هو عصر لبنان الامثل، و انهيار الليرة هو سقوط الوطن اقتصاديا.