من التقاليد الأرثوذكسية العريقة أن يُسلَق القمح عيد القديسة العظيمة في الشهيدات بربارة، حيث تُعدّ صينية “الكوليفا” (القمح المسلوق) وتُزيّن بالسكّر المطحون والزبيب واليانسون وبعض أنواع المُطيّبات الأخرى، وهذا التقليد مُتّبع في أعياد القديسين والشهداء عموماً، حيث يُصلّى على صينية القمح المسلوق “الكوليفا” في نهاية القداس الإلهي ليوزّع بعدها على المؤمنين.
يُقال أيضاً أن القديسة بربارة لما هربت من والدها الوثني الذي طاردها ليقتلها بعد علمه باعتناقها للمسيحية، اختبأت في حقل قمح واختبأت بين السنابل التي غطّتها وأخفتها عن عيونه. ويروي البعض أيضاً أنها صادَفَت بعض الرعاة وكانوا يسلقون القمح فطلبت منهم شيئاً للأكل فأعطوها بعض القمح المسلوق لتأكله. القمح في المسيحية هو رمزٌ للقيامة وعلامة الحياة الأبدية الخالدة التي تعقُب الموت عن العالم لنحيا في المسيح ومعه.
في 4 كانون الأوّل يحلّ عيد القديسة الشهيدة بربارة، وليس عيد «البربارة» بمعنى عيد التنكّر المرادف لطقس «هالووين» الذي يُقام في تاريخ آخر في الولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى. في هذا اليوم يتمّ استغلال عادة التنكر من قبل المحلات التجارية، المطاعم، الملاهي الليلية، شركات الإعلانات… وحتى البرامج التلفزيونية من أجل مكاسب مادية، إلّا أنه يومٌ يحتفل فيه المسيحيون بعيد قديسة من أوائل القديسين المسيحيين، التي ترمز إلى الإيمان والشهادة. وحسب الكنيسة المارونية يمكن إحياء هذا العيد واستذكاره بما يرمز إلى قصة القديسة بربارة، إن من خلال التنكّر وزيارة المنازل أو «سلق» القمح… ولكن؟!
التنكّر وطرق أبواب المنازل وتوزيع الحلوى أو «البونبون»، انتظار الشتاء ليلة عيد القديسة بربارة وأكل القمح، عادات تترافق سنوياً مع هذا العيد. فما رمزيّتها دينياً، وهل هي مسموحة، وضمن أيّ أطر؟
قصة بربارة
وُلدت بربارة في أوائل القرن الثالث في بيتٍ وثنيٍّ غنيّ، في قرية في نيقوميدية خلال عهد الملك مكسيمانوس. وفي قصر مليء بالأصنام يحيط به العسكر سجنها والدها، إلّا أنها من خلال خدامها وعبر التعلّم والتفكير «بمَن خلق هذا الكون»، اكتشفت بربارة المسيح وآمنت، فنذرت حياتها إلى الله، نادرة أن تعيش بتولة طيلة حياتها.
كلّ المغريات المادية وعروض الزواج لم تثنِ بربارة عن إيمانها، هي التي حطّمت الأصنام واستبدلتها بالصلبان. ولا حتى تهديدات والدها أو ترغيبات الملك ثنتها عن الإيمان.
هربت بربارة في أحد الأيام في الحقول من والدها الذي كان يريد ضربها وقتلها بسبب إيمانها، لكنّ الحراس تمكّنوا من القبض عليها، أمسكوا بها ووضعوها في السجن، وطلب والدها من الملك أن يحاكمها، فتمّ ضربها وجلدها وتمزيق جسدها والتنكيل بها وتمّ رش الملح علي جروحها، وإلقاؤها في السجن، لكنّ الله شفاها.
أصرّ والدها أن يهينها أكثر، واستدعاها الحاكم في اليوم التالي ففوجِئ بها فرحة، لا يظهر على جسدها أثر للجراحات فازداد عنفاً، وطلب من الجلّادين تعذيبها، وقطعوا ثديَيها وتمّ سوقها عارية في الشوارع والبصق عليها. فصرخت إلى الرب أن يستر جسدها فلا يُخدَش حياؤها، فسمع الرب طلبتها وكساها بثوب نوراني، ما جعل الناس تؤمن بما رأته. حينها قرّر والدها والملك أن يقتلاها، وقطعا رأسها فاستشهدت من أجل المسيح.
التنكّر
قصّة القديسة بربارة تمّ تناقلها عبر التاريخ «من إلى…»، ومصدر هذه القصة بالنسبة للكنيسة هو سنكسار الكنيسة الذي يضمّ سِيَر القديسين الأوائل في الكنيسة لغاية القرن السادس عشر. إنّ القديسة بربارة من القديسين الأوائل في الكنيسة، وهي رمز للإيمان المسيحي العميق ورمز للشهادة من أجل المسيح.
أما عن توارث عادة التنكّر وزيارة المنازل في ليلة عيد القديسة بربارة، أنّ هذا التقليد يرمز إلى تنكّر القديسة بربارة بثياب الفلاحين حين هربت و»هشلت» من منزل والدها، وطرقت أبواب المنازل، حيث تمّت تخبئتها وإطعامها.
أنّ التنكّر ليس عادة مسيحية، لكنه يرمز للوقت الذي تنكّرت فيه القديسة لتهرب، فـ»إننا نستذكر هذا الحدث وهذه اللحظة، ولكن لا مفهوم أو رمزية مسيحية للتنكّر».
القمح
ولسلق القمح معنيان, المعنى الأول تاريخي، لأنها اختبأت في حقول القمح، والثاني لاهوتي لأنها استشهدت وماتت من أجل المسيح، فيقول الإنجيل «إِنْ لَمْ تَقَعْ حَبَّةُ الْحِنْطَةِ فِي الأَرْضِ وَتَمُتْ فَهِيَ تَبْقَى وَحْدَهَا. وَلكِنْ إِنْ مَاتَتْ تَأْتِي بِثَمَرٍ كَثِيرٍ». ويتابع أبو كسم «أنّ القديسة بربارة هي حبّة الحنطة التي استشهدت من أجل المسيح، وبإستشهادها آمن ناس كثر، إذاً بربارة هي الحبّة التي زرعت في الأرض وأعطت ثماراً كثيرة».
هطول المطر
يتوارث الناس مقولة إنّ ليلة عيد البربارة «بكون شتي كتير» ربطاً بالشتاء الكثيف حين تمّ تعذيبها ومن ثمّ استشهادها، وفي هذا الإطار لا أساس دينياً لهذه الأفكار، إنها قصص يتمّ توارثها، ولا يوجد أيّ رابط بين هطول المطر والعيد، وإن أمطرت أم لا، فالعيد صحيح وقائم.
يتنكّر أولاد كلّ حيّ أو ضيعة في كلّ عام مشكلين مجموعاتٍ لزيارة المنازل وطرق الأبواب إحياءً للعيد، بمباركة أو إشراف كاهن الرعية في أحيان كثيرة. إلّا أنّ هذا التقليد البسيط البريء الذي يحيي الذكرى بنقاوة الأطفال، تحوّل عاماً بعد عام إلى ممارسات فاضحة وعشوائية قد تتخطّى بعض الأحيان كلّ المعايير الأخلاقية، إن من ناحية الزيّ التنكّري أو من ناحية الحفلات التي تُقام بهذه المناسبة.